الأربعاء 27 نوفمبر 2024

رواية رحلة اثام بقلم منال سالم

انت في الصفحة 24 من 80 صفحات

موقع أيام نيوز

 


بعيدا عن الصفوف الأمامية ليحظى بنوع من الخصوصية لعل وعسى يتمكن من فك الأحجية التي حيرته كثيرا وجعلته شبه فاقد للتركيز فيما يفعل. كذلك ليلة الأمس الجامحة لم تمنحه ما طمح في الشعور به من الاكتفاء والرضا بل جعلته يزداد رغبة وتلهفا في الحصول على هذه الطريدة الهاربة بالتحديد والإيقاع بها مهما تكلف الأمر فأنى له أن يقبل بالخسارة هكذا ببساطة!

أطفأ مهاب عقب سيجارته في المنفضة قبل أن تنتهي واستل أخرى من علبته الفضية ليشعلها سحب دخانها ببطء ولفظه على مهل وعيناه توحيان بتفكيره العميق والمستمر. حين انضم إليه ممدوح تجاهله تماما واقتضب في الحديث معه كأنه غير موجود المرة إلى أن أنار عقله فجأة بفكرة عجيبة كان قد غفل عنها آنئذ تحفز في جلسته بشكل يدعو للحيرة وراح يجمع متعلقاته الشخصية في تعجل وهو يردد لنفسه مندهشا 
إزاي كانت تايهة عني!
تطلع إليه ممدوح باستغراب فقبل لحظات كان يتصرف كالأصنام لا صوت له ولا حركة والآن النشاط ينضح من كل طرف فيه سلط بصره عليه وخاطبه في جدية طفيفة محاولا فهم ما يدور في رأسه
حصل إيه إنت مش معايا من بدري ودلوقتي إيه اللي اتغير!! 
نظر له بطرف عينه بهذه النظرة المزهوة كأنه غير مهتم بأي شيء من الأساس وقال مؤكدا
مش فارق.
تعجب أكثر من طريقته الغامضة وتضاعف لديه شعوره بالغرابة وهو يراه ينهض من موضع جلوسه استعدادا لذهابه لم يتركه لشأنه وسأله مستفهما بفضول
رايح فين
لوح له
بذراعه يودعه
هكلمك بعدين سلام.
زم شفتيه مبديا المزيد من الدهشة لانصرافه المريب سرعان ما تقوستا وتحولتا لابتسامة لعوبة وديبرا قد أتت لتستقر على مقعد شاغر ملاصق له. سألته وهي تنفض شعرها المسترسل خلف ظهرها
إلى أين هو ذاهب
قائلا في صوت خفيض لكنه عابث وشقي
لا تهتمي به أنا موجود لأجلك عزيزتي.
تأوهت پألم وهي تخبره بنظرة ماكرة
أوه ما زال جسدي يؤلمني.
سأطيب جراحك أنا خبير بذلك!
حسنا.
قالت كلمتها هذه وهي تمنحه بنظرتها الجائعة الإذن لتكرار تلك التجربة المحفوفة بكل ما هو غير اعتيادي فور الانتهاء من فاعليات اليوم لهذا المؤتمر لينال كلاهما متعة برية لا حدود لها.
بعد نصف الساعة من التنقل بين الحافلات المزدحمة بعشرات البشر وصلت الشقيقتان إلى العنوان الذي يحوي مقر عمل عوض سارتا بعدئذ مسافة تقرب العشرة أمتار في طريق كممتد وكل واحدة منهما تمعن النظر فيما حولها كمحاولة لتبين معالم المكان. ابتلعت عقيلة ريقها الجاف وجففت بكم عباءتها العرق المتصبب على جبينها ثم وجهت سؤالها لشقيقتها في صوت شبه منهك
متأكدة إنه شغال هنا
أجابتها أفكار وهي تومئ برأسها
أيوه ولاد الحلال دلوني على الحتة دي.
هزت شقيقتها رأسها في تفهم فأضافت الأخيرة مجددا بجدية تامة وإصبعها موجه نحو أحد الأبنية
هو شغال هناك!
في التو اتجهتا إليه وولجتا إلى الداخل لتسألا عنه لكنه لم يكن موجودا لذا انتظرت الاثنتان لما يقرب من الربع ساعة دون أن يصل بعد. تحدثت عقيلة في ضجر وهي تشير بإصبعها نحو بقعة شاغرة
خلينا أعدين بقى على الرصيف لحد ما نشوفه.
ردت أفكار وهي تطرد الهواء من رئتيها
ماشي.
افترشت كلتاهما الأرضية بعد وضع قطعة من الكرتون وقامتا بمراقبة المارة بنظرات متربصة إلى أن لمحته أفكار قادما من على بعد صاحت مهللة وهي تستند على ذراع شقيقتها لتنهض
أهوو جاي بعجلته من هناك.
عاونتها على القيام لتتبعها في النهوض وهي ترد في تلهف قلق
الحقيه أوام.
صړخت أفكار عاليا لتلفت انتباهه
يا عوض!
الصوت المنادي باسمه جعله يدير رأسه للجانب ليجد حماة شقيقه وشقيقتها تقفان بمحاذاة الرصيف أدار الدراجة في اتجاههما وتساءل بابتسامة مهذبة
إزيك يا خالة عاملين آ...
قاطعته عقيلة قبل أن يتم جملته معنفة إياه بهجوم صريح
هي دي الأصول اللي اتربيتوا عليها يا عوض طب حتى راعوا حق الجيرة!!
حملق فيه متعجبا وتساءل في توجس متزايد
حصل إيه
أضافت أفكار هي الأخرى بنفس النبرة المتحاملة
أيوه .. أيوه اعمل نفسك مش عارف.
أسند دراجته على عمود الإنارة ووقف منتصبا وهو يستطرد مخاطبا الاثنتين في قلق عظيم
اهدوا بس عليا وخلوني أفهم في إيه!
رفعت عقيلة إصبعها للسماء وصاحت في حړقة
حسبي الله ونعم الوكيل في الظالم!
استنكر اتهامها له وحافظ قدر المستطاع على هدوئه ليفهم في النهاية الأسباب الحقيقية وراء موقفهما المعادي له.
بواسطة بعض التوسلات والرجاوات الشديدة استطاع اللحاق بدور متقدم في إجراء مكالمة دولية عاجلة بالسنترال. في التو تطرق عوض للموضوع مباشرة وراح يسرد على شقيقه عواقب ما اعتبرها فعلته الخسيسة في حق هذه الشابة المسكينة المغلوبة على أمرها أخذت الكلمات تخرج من فمه مندفعة وبقدر من الھجوم لتعنفه بغلظة
هو ده اللي اتفقنا عليه
أتى رده باردا وغير مراع
النصيب بقى ياخويا.
استمر في عتابه الشديد له بقوله الحانق والمنفعل
حرام عليك يا بدري الناس مابترحمش وهي ولية لواحدها!
علق عليه بنبرة ساخرة
لو عجباك اتجوزها إنت!
زجره في حمئة وقد تلون وجهه بحمرة الڠضب
عيب كده مايصحش.
لئلا يطل في التأنيب أخبره شقيقه الأصغر بوضوح
من الآخر كده يا عوض فردوس دي مكانتش من تنفعني من الأول وحكايتها خلصت معايا ولما يبقى في حاجة مهمة كلمني مع السلامة!
لم ينتظر
منه الرد وأنهى المكالمة ليظل عوض مرابطا في مكانه مستنكرا جفائه وقسوته أعاد وضع السماعة في مكانها وهو يهمهم پصدمة وتحسر
لا حول ولا قوة إلا بالله! طب أقول للچماعة إيه!
بطبيعة الحال استغل معارفه وصلاته القوية بذوي السلطة هنا في الوصول إلى كافة المعلومات التي تخصها دون بذل أي عناء في التحري والبحث عنها وكانت المفاجأة المدوية حينما علم أنها لم تتزوج مطلقا مثلما أشاعت رفيقتها في السكن وما قد قيل من قبل هي مجرد أكاذيب واهية لإزاحته عن الطريق لسبب غير مفهوم بالنسبة له. انتشى على الأخير وصار أفضل حالا عن السابق فاللعبة ما تزال قائمة وهو الآن يسبق منافسه بخطوة عليه فقط الوصول إليها وجرها إلى شباكه بأي طريقة كانت حتى لو تطلب ذلك فعل ما لم يقم به مسبقا. 
استدل مهاب على منطقة إقامتها بالإضافة إلى مكان دراستها وتدريبها إن تعذر عليه اللقاء بها. عاتب نفسه لإضاعة الوقت هباء ومع ذلك اتجه سريعا إلى حيث تمكث وقد رتب أفكاره جيدا ليتمكن من حبك حججه المنطقية عليها. دق الباب وانتظر بتحمس فاستقبلته نزيهة بوجه جامد ونظرات فضولية قبل تطرح عليها السؤال المعروف مسبقا
إنت مين
بدا هادئا للغاية رغم الثورة المنتفضة بداخله وهو يسألها
دكتورة تهاني موجودة!
الإتيان على ذكر هذه السخيفة جعل مزاجها الرائق يتكدر فكتفت ساعديها أمام صدرها وردت باقتضاب وقد تحولت غالبية تقاسيم وجهها للعبوس الغريب
لأ.
سألها في شيء من الاستفهام
قدامها كتير عشان ترجع
ردت بوقاحة عجيبة ونبرتها قد ارتفعت تقريبا
أنا مش السكرتيرة بتاعتها عشان يبقى معايا خط سيرها.
حدجها بنظرة متعالية شملتها من رأسها لأخمص قدميها فاغتاظت من تحقيره لها دون أن ينبس بكلمة ليردد بعدها في ثقة واضحة
مش محتاج أعرف منك حاجة أنا هوصلها.
لم ينتظر كعادته أي شيء لتضيفه انصرف مبتعدا عنها فاغتاظت من فظاظته وصفقت الباب في عڼف خفيف وهي تغمغم بوجه مقلوب التعابير
ده مين ده كمان اللي شايف نفسه علينا!!
لحسن حظه وقبل أن يغادر المبنى المقيمة به وجدها تصعد الدرج وهي منكسة لرأسها لذا لم تنتبه لوجوده فانتظر بالأعلى وعلى شفتيه هذه الابتسامة المبتهجة لتحقيقه النصر في شيء ظن أنه خسره. ما إن رفعت تهاني عينيها إليه حتى تخشبت في مكانها مصډومة بشكل كامل رأته قبالتها يطالعها بهذه النظرة الدافئة المتلهفة تلك التي حلمت بها في ليلها الكئيب وتمنتها في نهارها المرهق. تلقائيا أحست بارتفاع وجيب قلبها بتدفق الډماء المعبأة بالشوق كدفقات متواترة في كل شرايينها لتغزو كيانها وتعكس تأثيره عليها اضطربت أنفاسها ورفرفت بأهدابها غير مصدقة أنه واقف بالفعل قبالتها. حاولت تجاوزه لتمر هامسا لها بصوته العذب الساحر
ينفع كده تدوخيني وراكي
اقشعر بدنها من طريقته الآسرة في التأثير عليها بقوة فتابع على نفس الوتيرة
هونت عليكي تبعدي عني
كانت له قدرة مميزة على توليد المشاعر المرهفة تلك التي لا تخطر على البال فيتمكن من خداع ضحيته دون أن يثير في نفسها الشكوك. توسلته بنبرتها وصوتها بالكاد يسمع
دكتور مهاب!
وحشتيني.
أوشكت أن تذوب من فرط الاشتياق فحضوره المفاجئ كان مصحوبا بما رجته وتمنته وما تحرقت لوعة للتمتع به. قاومت بصعوبة تلهفها عليه وسألته في لهجة رسمية أرادت التستر خلفها
حضرتك عرفت مكاني إزاي
ابتسم وهو يخبرها بغرور يليق به
مافيش حاجة صعبة على مهاب الجندي!
هذه النبرة الواثقة المليئة بكل ما يوحي بسلطته وقوته جعلتها متأرجحة بين الثبات والاڼهيار. أحرز مهاب تقدما معها وهو يزيد من استخدام مرادفاته المميزة
أنا مش عارف أعيش من غيرك.
لزمت الصمت لكنه لم ينفع
أيضا وهو يواصل الضغط عليها بكلماته المنتقاة بعناية
مش متخيل حياتي بدونك.
للحظة راودتها الخيالات والأحلام الوردية بمستقبل عظيم معه لكن ما لبث أن أفاقت من شرودها اللحظي على حقيقة واقعها المرير المغلف بالمتناقضات فإن تجاوز عن وضعها المادي كيف له أن يقبل ببساطة وضعها الاجتماعي إن عرف من أين جاءت ومن هي عائلتها المتواضعة رنت في أذنيها عبارات ممدوح المحذرة بأنها وسيلة للهو والتسلية! فعادت لجمودها وردت پألم وتحفز وهي تدفعه من صدره لتتخطاه
دكتور مهاب أنا ظروفي غيرك خالص أنا واحدة عادية جدا وأقل من العادي عيلتي بسيطة وآ...
بترت كلامها قبل أن تستكمله عندما امتدت يده لتمسك بها من كفها شدها إليه وسألها دون تمهيد وبجدية تامة 
تتجوزيني!!
هبطت الكلمة على رأسها كالمطرقة فحدقت فيه بنظرات مذهولة متسعة قبل أن تردد بلا وعي
إيه
كرر عليها ما قاله بابتسامة ناعمة وبلا أدنى شك فيما اعتبرته نواياه الصادقة تجاهها
زي ما سمعتي تتجوزيني
ألجمت المفاجأة الصاډمة على كافة الأصعدة لسانها واعترضت في تردد محسوس
بس آ...
وضع إصبعه على شفتيه ليسكتها قائلا بعذوبة وبنبرة متحكمة
أنا عاوزك ليا ومش هسيبك!
ظلت تتطلع إليه بجسد شبه مرتعش وشفتان ترتجفان هي لا تصدق حقا ما يحدث إصراره على الزواج بها كان واقعا لا حلما عابرا بدت وكأن حياتها البائسة على وشك التغيير الجذري فقط إن أبدت موافقتها!
صوت قلبها غطى على صوت العقل وحجب المنطق فانساقت بلا هوادة وراء مشاعرها الملتاعة وقبلت بعرضه غير المقيد بشروط بالزواج منه وكيف لها ألا توافق وقد قدم لها نعيم الدنيا وثرائها على طبق من ذهب اتفق الاثنان على إتمام مراسم زواجهما بالسفارة لتتمكن من الحصول على ورقة رسمية تضمن لها كافة حقوقها كزوجة لأحد أهم الرجال بالمجتمع. كلفت تهاني الطبيب المسئول عنها بالبعثة ليكون وكيلها هنا وجلست في استحياء على الأريكة الجلدية المتسعة في الحجرة الخاصة بمدير مكتب السفير المصري. بدت في زيها الكريمي وشعرها المصفوف بعناية كشخصية راقية تنتمي للطبقة المخملية منذ نعومة أظفرها ولما لا وقد
 

 

23  24  25 

انت في الصفحة 24 من 80 صفحات